عبدالحى عطوان يكتب: عمر والقدر ووصية الشيخ جلال
لم يتخيل يوما أنه سيواجه ذلك القدر بكل هذه الخسائر وأن حياته ستُقلب رأسًا على عقب بعد غربة دامت عشرة أعوام كون فيها إمبراطورية من المال؛ فقد وصل عمر عائدًا لقريته التي شهدت طفولته، ألقى بنفسه أمام تلك الدار التي احتضنته حتى غادرها شابًا على إكليم مصنوع من صوف الإبل مفرود فوق مصطبة مصنوعة من الطوب والطين،زاغت عينيه يمينًا ويسارًا بحثًا عن ذكريات طفولته تذكر عمه المهندس عبدالعزيز صاحب الشعر الذهبي الناعم والذى كثيرًا ما كانت تداعبه ابنته بأنه يَصلح نجمًا سينمائيًا لولا أنه فضل الهندسة، جاء في ذاكرته عمته سعاد وصراخها ليل نهار مع الأطفال، ليلى ابنة عمه ذات العينين العسليتين والتي عمرها من عمره وحديث الآباء عن ليلى لعمر وعمر لليلى وكيف فرّق بينهما الزمن! تذكر والدته الحاجة جليلة وكيف كانت تدخر من مصاريف المنزل وتعطيه لينفق على أدواته وكتبه وكراسته!، ابتسامتها العريضة والزغرودة التي كانت تُطلقها عند نجاحه وأخته حياة التي تكبره بعامين وحنيتها وسهرها معه، خاله ممدوح ونكاته التي لا يزال يذكر منها القليل.
انتفض واقفًا من سيل الذكريات التى بدأت تطارده، صورة الحاجة جليلة أمه حينما هم مودعًا لها مُقبّلًا يديها ورأسها بقبلة حانية ودموعها التي انسابت على خديها وتشبثها بيديه ألا يغادر، فقد أحنى الدهر ظهرها وفي أشد الاحتياج إليه والده الشيخ جلال وآخر كلماته ونصائحه طوال الطريق المتعرج بالقرية ليلحق بالسيارة الوحيدة التي كانت تقل المسافرين إلى محطة القطار، حاول أن يخرج من تلك الذكريات فخطا خطوات قليلة داخل الدار انتابه الذهول حينما وقعت عيناه على أخته حياة وهى ملتفة بوشاح اسود فوق ملابس سوداء وقبل أن يبادرها بالسؤال صرخت باكية قائله جليلة وجلال ماتوا يا عمر لحظتها أحس بأن سقف المنزل سقط على أنفاسه وانقباض غريب سرى بين خلجاته وعضلات كتفية، تمنى أن يضع رأسه تحت صنبور ماء ليطفى ذلك الغليان الذى أصاب جسمه..
غادر المنزل مسرعًا إلى حافة النهر، المكان الذى عشقه طيلة سنوات طفولته وشبابه، جال ببصره إلى الناحية الأخرى من شاطئيه، تأمل زرقته الزاهية، وأشجار النخيل المتناثرة بين البيوت وعلى أطراف القرية وكأنها شاهدة على تاريخ ذلك المكان، وزراعات القصب الممتدة، والطرق الضيقة بين الغيطان، شم رائحة الهواء المحبوس بين النباتات الكثيفة، واستمع إلى خربشات أوراق الشجر التي تتمايل مع الرياح، مال بجسده للوراء على أعشاب النجيل، متكئًا، رافعًا يديهه للسماء فى أمنية أن يكون كل ما مر به منذ قدومه حلم، وأن والده الشيخ جلال وأمه الحاجة جليلة لم يغادرا الحياة، وأنه سيلقاهم بمجرد عودته للمنزل حاول أن يغمض قليلًا؛ لتغفو عيناه، لكن سرعان ما دوى صوت عمه الحاج عبدالله الذى قارب الستين موقظًا فى داخله كل الأحداث، فهب منتفضًا مُقبّلًا يديه وجبينه واحتضنه، ليصرخ صرخة مدوية كانت مكتومة كادت تفتك بكل ضلوعه، قائلًا: لقد رحلا قبل أن أراهما، فقد سرقت عمرى الغربة وذهبا دون كلمة وداع.
عاد بخطوات ثقيلة إلى الدار وفى قرارة نفسه أن تطول رحلته ويستطيع أن ينفذ بعض وصايا والده الشيخ جلال وأن يبني بالقرية مسجدًا ودار لتحفيظ القرآن، وجمعية لخدمة الأيتام وبينما هو يخطط لكل ذلك أيقظه ذلك التليفون المزعج ليدقق النظر فى الرسالة القادمة عبر شاشته، ويعيد قراءتها مرات ومرات فهي تحوى العديد من الأرقام والموازنات والاعتمادات عن طبيعة شغله، دار برأسه قليلًا فقد تغيرت ملامحه واكفهر وجهه فهب واقفًا متوترًا وسار مسرعًا مضطربًا فقد حسم الأمر متخذًا القرار..
وإلى اللقاء في الجزء الثانى.. تابعونا