هل البعد عن أهل الأذى يُعد خصامًا؟ نظرة دينية واجتماعية شاملة

في حياة الناس اليومية، تتكرر مواقف من الظلم، والافتراء، وسوء الظن، وربما تُقلب الحقائق فيُتهم المظلوم بأنه البادئ بالخصام، ويُقال فيه ما لم يقله أو يفعله. وتثور تساؤلات مشروعة:
هل البعد عن هؤلاء الأشخاص يعتبر خصامًا يُحاسب عليه الإنسان أمام الله؟ وهل الابتعاد عن أهل الأذى والفتنة يُعد قطيعة محرمة؟ ومتى يكون الهجر مشروعًا بل مطلوبًا؟
هذه أسئلة تمس جوهر العلاقات الإنسانية، وتحتاج إلى وعي ديني، وفهم سليم للنصوص، وتقدير واقعي للضرر والمصلحة.
أولًا: الخصام المذموم في الشرع
الخصام المذموم هو ما يصحبه عدوان أو ظلم أو قطيعة رحم أو أذى للمسلمين، وقد نهى الإسلام عنه في غير موضع، فقال الله تعالى:
"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ"
(الحجرات: 10)
وقال النبي ﷺ:
"لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هذَا ويُعْرِضُ هذَا، وخَيْرُهُما الذي يَبْدَأُ بالسَّلَامِ"
(رواه البخاري ومسلم)
لكن العلماء قيّدوا هذا النهي بما إذا كان الهجر لغير سبب شرعي. أما إذا كان الهجر دفعًا للضرر أو حماية للنفس والدين، فله حكم آخر.
ثانيًا: البعد عن أهل الأذى لا يُعد خصامًا شرعيًا
اتفق العلماء على أن من ثبت أذاه وضرره، ولم يرتدع، ولم يُرجى صلاحه، فإن الابتعاد عنه لا يُعد خصامًا مذمومًا، بل يُعد هجرًا مشروعًا لحماية النفس والدين.
قال تعالى:
"وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا"
(الفرقان: 63)
وفي الحديث:
"المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ"
(رواه مسلم)
والقوة هنا تشمل القوة النفسية والقدرة على اتخاذ قرارات تحمي الإنسان من المهالك.
ثالثًا: الهجر المشروع له ضوابط
الإجماع قائم على أن الهجر قد يكون واجبًا أو مستحبًا إذا كان الشخص الآخر يُلحق الأذى، أو يُشيع الفتنة، أو يُؤذي المسلمين بلسانه أو فعله.
وقد قاس العلماء الهجر المشروع على هجر النبي ﷺ لكعب بن مالك وصاحبيه لما تخلفوا عن غزوة تبوك، رغم أنهم كانوا من المؤمنين الصادقين، لكنه ﷺ هجرهم تأديبًا وتهذيبًا، فكيف بمن يُسيء عمدًا ويصر على الباطل؟
رابعًا: من أراد الإصلاح فبابه مفتوح
الإسلام لا يغلق باب التوبة أو العفو، لكنه لا يُجبر المؤمن على معانقة الأذى. ومن أراد الصلح فعليه أن يُظهر نية الإصلاح، ويعتذر عن خطئه، ويكف لسانه، ويحترم الناس.
قال تعالى:
"فَمَن عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ"
(الشورى: 40)
أما من يطلب العفو وهو يُصر على الأذى، فهذا ابتزاز عاطفي لا يُلزم المسلم بشيء.
خامسًا: توعية المجتمع
يجب أن نُربي أبناءنا ومجتمعاتنا على أن القرب من الناس ليس فرضًا شرعيًا مطلقًا، وإنما يجب أن يكون القرب ممن تُرتجى صحبتهم، ويُنتفع برأيهم، ويُؤمَن جانبهم.
أما من ينشر الفتنة، ويُحرّض على الشر، ويتعدى على الأعراض، فالبعد عنه من سلامة القلب والدين.
الخلاصة
الخصام المذموم هو ما لا يقوم على سبب شرعي.
الهجر لأهل الأذى والفتنة مشروع، بل قد يكون واجبًا.
لا إثم على من ابتعد عن أهل السوء إذا كان في قربهم ضرر وشر.
الإصلاح مفتوح، ولكن بشروط واضحة: الاعتذار، وترك الأذى، والنية الصادقة.
فلنُحصّن علاقاتنا بالتقوى، ونحفظ أنفسنا من أذى أهل السوء، وليكن شعارنا:
"وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا، وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا"