عبدالحى عطوان يكتب : بائعة المناديل
ظلت سنوات طويلة لم تعرف عددها، تبدأ يومها مع بزوغ الشمس، تسابق الخطى حتى تصل لموقعها التى اعتادت علية، فقد أصبحت أحدى علامات الميدان الشهير، فكلما أغلقت الإشارة وأصطفت السيارات خلف بعضها، تركض كالمجذوبه تقدم أقدامها زحفاً ،فقد أعياها الوهن والارهاق، تستعطفهم بعلبة المناديل التى بيدها، فقد بدت ملابسها باهته قديمة، تحكى عمراً طويلاً على ارتداؤها ،لا تستطيع أن تميز ملامحها أو تقاسيم وجهها، ولا تتبين إذا كانت مغطية الرأس أم خصلات شعرها ترمى على كتفيها دون إرادتها، تطل عليك صوابع قدميها من فتحات حذائها، فهى جذابة نحيفة القوام، تحتفظ بأنوثتها، خمرية اللون داكنه من لفحة الشمس.
بعد ساعات قطعتها جرياً بالإشارات، والشحاذة بكل الألوان، تتحرك ثقيلة الخطوات، تجر جسمها وكأنها مقيدة بسلاسل فى أحد أعمدة الميدان، فهى تحمل فوق كتفيها هماً ثقيلاً، جلست متكئه بظهرها على أحد جدران المبنى المواجه للميدان، لتتناول ما أعطاه لها أحد راكبي السيارات الفخمة حينما طاردته بعلبة المناديل، لم تعرف نوعية ذلك الطعام، فلم تتذوقه أبداً حاولت أن تقترب بفمها منه، قضمته وهى تتوجس حذراً، فأحست بطعمة الغريب، وقشعريرة تنتاب جسدها، فقررت إلا تأكله وأن تجعله طعاماً لأولادها يسد بطونهم الخاويه، أعادته إلى لفافته، فهى من السلوفان الغالية، الذى زغلل عيناها، حادثت نفسها سأحتفظ بهذة اللفافة معلقة أمام عيناى ما حييت.
ومع قدوم الليل وظهور أول خيوط الظلام، غادرت ذلك الميدان الذى حفظت كل شبر فيه، وتوقيت أشاراته وتجاه أسهمه،عائدة حيث تقطن، دخلت الحجرة الوحيدة التى تمتلكها،ألقت بجسدها على ذلك الفراش الذى صنعته من الأقمشة الباليه، فقد أعياها شقاء اليوم، حاولت أن تغمض عينيها، حتى لا يطاردها ذلك الهاجس الذى يلازمها طيلة الفترة الأخيرة، نظرت إليهم فقد كان بكاؤها صامتاً ودموعها لا تتدفق من عينيها ،همهمت قائلة دائماً ما كنت أحلم أن الحياة القادمة ربما تعطيني شيئاً بسيطاً من السعادة،
هبت رائحة السعادة المتبقيه فى الذاكرة، فتذكرت البدايات حينما جاء إليهم فخطف قلبها برنين صوته، وخصلات شعره الطويله، وأزرار قميصه الملون، وحذاؤه الأسود اللامع، ونظرات عينيه الساحرة، ودفء كلامه، مازالت تذكر حينما قبض بيديه يديها، وقسم يمينه بأنه سيكون لها السند، ومن أجله غادرت مدرستها، ولم تكمل تعليمها، وتزوجته، أملاً فى أن تعيش فى كنفه، وأن تشعر معه بالمودة والرحمة، ولكنه سرعان ما تبخر كل شئ، سافر ولم يعد، وباع كل شئ الحنين والذكريات والاولاد، وعشرة السنين، فقد تواردت أخباره بزواجه من أخرى بإحدى الدول العربيه،
حاولت أن تخفى نظرات التيه أمام أولادها، فقد هجرها دون ذنب، بعدما تحملت معه كل شئ قسوة الزمن والفقر والأيام، غادر وغدر وألقى بها فى طريق الشحاذة وطلب السؤال، خمسة أولاد وخمسة أعوام بين الفقر وجدران المحاكم، وكأن قانون الأحوال الشخصية فصل خصيصاً ليكون المجتمع ذكورى بأقتدار،خمسة أعوام ما بين الجلسات والتأجيل وأجرة الأوراق وشهادات الجدول والمحامين، ولم تحصل على حق رغيف، فقد طفى على ملامحها الحزن وما عاد غصنها يثير الهواء ضحكاً كما كان.
أنتفضت من هواجسها، قفز قلبها بين ضلوعها، وقررت الزيارة لبيتها القديم، كانت خائفة وهى تخطو برجلها المرتجفة نحوه، وبمجرد دخولها بين جدرانه، شعرت بأنوثتها ورونقها وجمالها فقد عادت إليها الحياة، نفضت الغبار من فوق عينيها، قالت ولما لا ولتكن البداية، فلا ذنب أرتكبت! ولا فى خطيئة سقطت، تراجعت وقالت ولكنه ألف لا! فحبل المجتمع المتدين بطبعه بات ملفوفاً خانقاً يعد أنفاسي، يحاكمنى وأنا المقهورة، ما كنت يوما شحاذة، فقد ضاع حلمى وعمرى بين رجل ظالم وخمسة أولاد وقانون أعوج وقاضى صامت وأركان الميدان !
هل ستتخذ القرار وتكون البدايه من بيتها القديم ......؟؟