عبدالحى عطوان يكتب: عاماً كاملاً على رحيله
عاماً كاملاً على رحيله، عاشت مع ذكرياته قابعة بين أربعة جدران، دون أن تغادرهما يوماً واحداً، تضربها بروددة الصقيع فى الشتاء، وقيظ الحر بالصيف، أختفت بين حوائط غرفتها المسافات الفاصله، وأحاط الظلام بها من كل جانب، فأطبقت الشجون على عينيها، فبدت الألوان كئيبة باهته وأصبح الحزن القابع داخلهما سلطانا للاشباح.
لم تفارق الأدوية والمهدئات وتعليمات الطبيب عاماً كاملاً أدراجها، حتى باتت الدهشة والرعشة والصمت المدقع والألم عنواناً لملامحها، غاب عنها النوم وزرعت فراشها ووسادتها بالأشواك، فهى فى حلم دائم غير مصدقه لذلك الفراق، كانت تردد كلما أختلت بنفسها سوف يأتى وتنجلى عتمة الليل، لم تشعر بتقاسيم وجهها التى تغيرت، ولا بريقها الذى أنطفا، ولا بذلك السواد الذى كسي كل جبينها، ولا بعيناها التى دفنت بين مخارج دموعها، فبدت وكأنها قطعة من لوحة تشابكت خيوطها وأطمست ألوانها فضاعت ملامحها وكأنها رتوش صورة لأنثى غادرت الحياة.
ينتابها التيه كلما تذكرته أو نظرت إلى صورته المعلقه فى أحد أركان غرفتها الدامسة الظلام، تمددت على الأريكة، حاولت أن تخرج محبرتها وقلمها وأن تكتب أى شئ، لتغير ذكرى بروفيلها ذات الوشاح الأسود والمكتوب علية "مغلق للحداد" حاولت تجميع الحروف تشبيك الكلمات ولكنها وجدت صعوبه فى أستنباط جملة واحدة، فكلما كتبت شيئاً عادت لتقرأه فسرعان ما مزقته، أطبقت جفون عينيها فماجت برأسها شجون الذكريات، أحلامه، وآماله، وروحه، وكلماته، وطموحه، صوت سيارته وسرينته عندما كان يقترب من المنزل وكأنه يعلن عن قدومه، طرقات يديه الخفيفتان، أدارته للمفتاح، تنهيدته عندما كان يهل بالجلوس فوق الأريكة، ويضع ما يحمله من أكياس فوق المنضدة الموجوده بأحد أركان الصاله، فقد كان أنيقاً مهندماً، تسريحة شعرة، قامته، وخطواته الثابته، ملامحة الوسيمة، وملابسه المنسقه، وساعة يدة ذات الماركة،تذكرت كل شئ حتى حديثه مع أمه كلما جاءت وأحلامه القديمه بأن يصبح ضابطاً يعلق النياشين والأوسمة، فقد كان زوجاً هادئاً رقيقاً يطوى بين حنايا القلب روحا دافئة حنونه، إذا تحدث أنصت إليه الجميع، فطريقة حوارة وأنتقائه للكلمات كانت تصنع حوله بريقاً جذاباً، عاماً كاملاً لم يفارقها لحظه عاشت خلاله مع الذكريات ، ولم أتخيل ان ساعة رحيله دنت،
تذكرت ذلك اليوم المشئوم حينما أستيقظ صباحاً كالمعتاد، نظر إلى ساعته، رفع رأسه من فوق الوسادة، أجتاز الصاله لحمامه، تناول المنشفه الموضوعة خلف بابه ، قامته، مشيته الرشيقة، وعيناه المسددتان إلى الأفق، وضعت له أفطاراً مع كوب الشاى، أخذت أحدق فيه بعمق ، أنصت اليه هائمة، حاولت أن أتجه ناحيته مباشرة لاقبله وأرتمى بين أحضانه كعادتى كل يوم ،ولكنى تعثرت فى طيات السجادة المفروشه، فهما بالمغادرة مسرعاً لعمله، نزل درجات السلم، وقفت أراقبه من خلف النافذة حتى خطا خطوات الشارع، حاولت أن أنادى عليه، ولكن صوتى لم يطاوعنى، أحساس غريب أنتابنى لحظتها، وكأنها الرؤية الأخيرة،أو مشهد الوداع حاولت أن أهرب منه بلا جدوى، أنين مكتوم بصدرى، سكون رهيب، سحب ضبابية شديدة الكثافة ضربت كل أركان المنزل، جسدى أنتابه الوجع بكل جزء، لم أعرف سر ذلك الحزن الدفين الذى غاص بأعماقى، ولا انقباضة قلبي، ساعات قليلة مرت على كالدهر، وأنا اترقب عودته، ولكنها النهاية التى لم تفارقنى طوال عام فقد جائنى جسداً مكفناً وسط نحيب رفاقه، عاماً كاملاً على رحيلك، ولم تفارقنى تلك اللحظة، ولا تلك الذكريات.
وقفت منتفضه من مكانها، تحركت قليلاً نظرت الى صورته،همهمت بين نفسها، كتبت على الورقه الأخيرة بيدها جمله بل جملتان، عادت تقرأهأ فلم تمزقها قررت ان تنطلق فى رحلتها مع الحياة فلتكن البدايه ،فهذة هى ارادة الله .