عبدالحى عطوان يكتب : لاتتركونى أموت وحيداً
تمدد بجسده النحيل مستلقياً على فراشه،بعدما أغلق شباك النافذة الوحيد الذى تدخل منه بعض نسمات الهواء، وأطفأ مصباح إنارته،وأكتفى بضوء خفيف قادم من أعماق الصالة الموجودة أمام غرفته، ليسترجع ذكرياته الماضية خلال رحلة سنين عمره، التى أحس من وحدتها وقسوة آلامها بدنوها ،
أطبق قدميه فوق بعضها، بدت نظراته تتفحص الحوائط والألوان الباهته التى عتقها الزمن،غاص داخل ذاكرته للوراء جاءت كشريط سينمائى مشوش ،فاض الصمت من حول الجدران التى تحيطه، والتى شعر أنها تكتم أنفاسه،حاول أن يصرخ صرخة مدوية،بعدما ظن أنه نائمًا، أو داخل حلمًا عابرًا ،أو كابوسا يطارده ،جاءت الصور سريعة ومتلاحقة تذكر حينما كان فى مرحلة الشباب يرتدى تلك الملابس الأنيقه والحذاء الذى تضاهى لمعته بريق الشمس والشعر الاسود الكثيف يغطى رأسة حتى جبينه، خطوات قدميه عندما كان يسير فتفوح منه رائحة العطر.
دار ببصره يميناً و يساراً استوقفته بعض الصور التى تزين جدران الغرفة والتى علقها منذ سنوات بعيدة مضت،حاول أن يتذكر أسماء الأصدقاء التى تطل وجوهها عليه،أسماء البلاد التى زارها أو عمل فيها، والخطى التى لم تتم، أنتابته رعشة مريبة حاول أن يغمض عينيه أن يغفو قليلاً فلم يستطع،
أنتفل من بين ظلال الضوء الخافت، والتى شعر وكأنها الغيم الذى فرض ظلمته عند مروره مع السحاب، إلى تلك الصالة التى تحوى تلك المقاعد العتيقة، والطربيزة التى بدت على أرجلها التمزق من مضى الزمن عليها، جلس على أحد الكراسي المواجهة للتليفزيون ذات الجوانب الخشبيه،حاول أن يميل رأسه للوراء ولكنه شعر وكأنها تحوى سرب يمام ،أو تدقها أصوات صهيل خيل تدوس حوافرها على طريق مرصوف وكأنها نغم أبدع الموسيقى فى كتابة نوتته، أحس بشهوة العطش،فقد جاءت فى ذاكرته أنين الأمواج البعيدة وعدد من الحكايات المليئة بالضجيج، رحلة طويله قاربت على الثمانين من العمر
تذكر كيف كانت نصائح والده قرأناً يحفظ، وكيف حاول أن يربي أولاده بعد رحيل زوجته بنفس المبادئ، لكن الحياة وقسوتها، فقد أطاحت بكل شىء ،فقد هجرونى إلى منازلهم وأعمالهم من سنوات طويله، بل سقطت من ذاكرتهم فقد ما عادوا يتذكروا سوى أولادهم وأموالهم ، فقد تناسوا وجودى فقد مرت سنوات طويله على آخر زيارة أحدهم لى،
قام منتفضاً إلى غرفته ،فتح نوافذها حتى يضرب الهواء فيها، أمسك بورقة بيضاء وبقلم قديم، كتب بعض كلماته التى أختلطت حروفها بدموعه التى سالت دون أن يستطيع أيقافها ،لم يتبقى فى العمر سوى غفوات قصيرة،يقتلنى الحنين إليكم ،لا تتركونى أموت وحيداً فى غرفة مسدلة الستائر فقد افنيت عمرى من أجلكم، لا تنتظروا ساعى البريد وهو يطرق بابكم، ليخطركم بوفاتى لحظتها لا تكفى سحابة الغيم من دموع الندم التى ستذرفونها حتى ولو بالمجاملة أو حساباً للبشر...لا تتركونى أموت وحيداً