الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز والشعراء
لَمّا أفضَت الخِلافَة إلى عُمَر بن عَبد العزيز وَفَدت إليه الشُعراء كَما كانَت تَفِد على الخُلفاء مِن قَبلِه، فأقاموا ببابِهِ أيّاماً لا يؤذَن لَهُم في الدخول حَتّى قَدمَ عَدِيّ بن أرطأة عَلَيه وكانَ مِنهُ بمكانَة، فَتَعْرَّضَ لَهُ جَرير وقال:
يا أيّهَا الرّجُلُ المُزجى مَطِيَّتَهُ!...هَذا زَمانكَ إني قَدْ مَضى زَمَني ..أبلِغْ خَليفَتَنا إنْ كُنتَ لاقِيهِ...
أنّي لَدى البابِ كالمصفودِ في قرنِ لا تَنسَ حاجَتَنَا، لاقَيتَ مَغفِرَةً...قَد طالَ مُكثيَ عَن أهلي وَعَن وَطَني
فقال: نَعَم يا أبا عَبد الله..
فدخلَ عَدِيّ عَلَى عُمَر..
فَقَالَ: يا أميرَ المؤمنين ! الشُعراء ببابك وسهامهم مَسمومَة وأقوالهم مسموعَة
فقَالَ عُمَر: ويحك يا عَدِيّ ! مالي وللشُعراء؟
قَالَ: أعزَّ اللَّه أمير المؤمنين، إن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَد امتُدِحَ فأعطى، ولك فِي رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسوةٌ حسنة.
فَقَالَ عُمَر: كَيْفَ ؟
قَالَ: امتَدَحَهُ الْعَبَّاس بْن مرداس السُّلَميّ فأعطاه حُلةً قطعَ بها لسانه، قَالَ: أَوْتروي مِن قوله شَيئًا ؟
قَالَ: نَعَمْ، وأنشدَ :
رَأَيْتُكَ يَا خَيْرَ البريَّةِ كُلِّها...نشرتَ كتابًا جَاءَ بالحقِّ مَعْلَما
شَرعت لَنَا دينَ الْهُدي بَعْدَ جَوْرِنا...عَنِ الحَقِّ لمّا أصبح الحقُّ مُظْلما
وَنَوَّرتَ بالْبُرهانِ أمرًا مُدَنَّسا...وأطفأتَ بالبُرهانِ نارًا تَضَرّما
فَمَن مُبلِغٌ عَني النَّبِيَّ مُحَمَّدا...وكلُّ أمرئ يُجزي بما كَانَ قَدَّما أقَمْتَ سَبيلَ الحَقّ بَعْدَ اعوجاجه...وكانَ قَديمًا رُكنَهُ قَدْ تَهَدَّما
تَعالى عُلوًّا فَوْقَ عَرشِ إلَهَنا...وكانَ مَكان اللَّه أعلَى وأعظَما
فقالَ : صَدَقْتَ، فمَن بالبابِ مِنهُم؟
قالَ: ابن عَمّك عُمَر بن أبي رَبيعَة.
قال: لا قَرَّبَ الله قرابَتهُ وَلا حَيَّا وَجْهَهُ، ألَيسَ هُوَ القائِل:
ألا لَيتَني في يَوم تَدنو مَنِيَّتي...شَمَمتُ الَّذي ما بَيْنَ عَينَيكِ والفَمِ
وَلَيْتَ طَهوري كانَ ريقَكِ كُلَّهُ...ولَيْتَ حُنوطي مِنْ مَشاشكِ والدَّمِ
ويالَيْتَ سَلمى في القبورِ ضَجيعَتي...هُنالِكَ أو في جَنَّةٍ أو جَهَنَّمِ
فليتَهُ عَدو الله تَمَنّى لقاءها في الدُنيا، ثُمَّ يَعْمَل عَملاً صالِحاً، والله لا يَدخُل عَلَيَّ أبداً..
فمَن بالبابِ غَيره مِمّن ذَكَرت؟
قالَ: جَميل بن معمر العُذري
قال: ألَيْسَ هُوَ القائِل:
ألا لَيْتنَا نَحْيا جَمِيعًا وإن تَمُتْ...يوافِقُ فِي المَوتى ضَرِيحي ضَرِيحُها
فمَا أَنَا فِي طولِ الحَياةِ براغبٍ...إِذَا قيلَ قَدْ سُوِّي عَلَيْهَا صَفِيحُها
والله لا يدخل عليّ أبدا، فمَن بالبابِ غَيره مِمَّن ذَكَرتَ؟
قال: كُثَيّر عَزَّة
قال: ألَيْسَ هوَ القائِل:
رُهبانُ مَدْيَنَ والَّذينَ عَهَدتهُم...يَبكونَ مِنْ حَذر الفراقِ قُعودا
لَو يَسمَعونَ كَما سَمِعتُ حَديثها...خَرّوا لِعَزَّةَ رُكَّعَاً وَسُجودا !
أبعَدَهُ الله، فوالله لا يَدخُل عَلَيَّ أبَداً، فمَن بالبابِ غَيره مِمَّن ذَكَرتَ؟
قالَ: الأحوَص الأنصاري.
قال: ألَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ -وَقَد أفسَدَ عَلَى رَجُل مِن أهل المَدينَة جاريَتهُ حَتَّى هَرْبَ بِها مِنهُ-:
اللَّه بَيني وَبَيْنَ سَيِّدِهَا...يَفِرُّ مِنِّي بها وأتّبِعُه
غرِّبْ عَنْهُ، فما هُوَ بدون مَن ذَكَرت، فَمَن هاهُنا أيضًا ؟
قالَ: هَمّام بن غالِب الفَرَزْدَق.
قال: ألَيْسَ هوَ القائِل يَفتخر بالزِّنا في قَوله:
هُمَا دَلّيانِي مِن ثمانين قامةً...كَمَا انقضَّ باز أقْتَم الريشِ كاسِرُهُ
فَلَمّا استوت رِجلاي بالأرضِ قالَتا...أحَيٌّ يُرَجّى أم قَتيلٌ نُحاذِرُه
لا يَطأ والله بساطي، فمنْ سواه بالبابِ مِنهُم ؟
قالَ: الأخطل التغلبي. قالَ: الَّذِي يَقُولُ:
وَلَستُ بصائِمٍ رَمضانَ طَوْعًا...وَلَسْتُ بآكلٍ لَحْم الأضَاحِي
وَلَستُ بزاجرٍ عَنْسًا بكُوراً...إلى بطحاء مَكَّة للنَّجاحِ
وَلَستُ بقائِمٍ كالعيرِ يَدْعُو...قُبَيْلَ الصُبحِ حَيَّ عَلَى الفلاحِ وَلَكِن سأشرَبها شَمولاً...وأسجُدُ عِنْدَ مُنبَلج الصباحِ
والله لا يَدخُل عَلَيَّ وهو كافِر أبدًا، فَهَل بالبابِ سِوى مَن ذَكَرت ؟
قالَ: جَرير.
قال: أما إِنَّهُ الَّذِي يَقُولُ:
طَرَقتْكَ صائدةُ القلوبِ وَلَيْسَ ذَا...حينَ الزيارةِ فارْجِعي بسلامِ
فإن كَانَ لابُد فَهُو، فأذَن لَه.
فدَخْلَ جَرير وهوَ يَقُولُ:
إنّ الَّذِي بعث النبي مُحَمَّداً...جَعْلَ الخِلافَةَ فِي الإِمَامِ العادلِ
وَسْعَ الخلائِقَ عَدلُهُ ووفاؤهُ...حَتَّى ارعَوى وأقامَ مَيْلَ المائِلِ
إِنِّي لأرجو مِنكَ خَيرًا عاجِلاً...والنَّفسُ مُولَعةٌ بحُبّ العاجِلِ
واللهُ أنزَلَ في الكتابِ فَريضَةً...لابن السَّبيلِ وللفقيرِ العائِلِ
فَلَمّا مَثْلَ بَيْنَ يَدَيْهِ، قال: وَيحكَ يا جَرير، اِتَّق اللَّه وَلا تَقولَنَّ إلّا حَقًا..
فأنشَأ جَرير، يَقُولُ:
أأذكُرُ الْجُهْدَ والبَلْوى الَّتِي نَزلَت...أم قَدْ كَفَانِي مَا بُلِّغْتَ مِن خَبَري
كمْ بالْيَمـَامَةِ من شَعْثَاءَ أَرْمَلَةٍ...ومِن يَتِيمٍ ضَعِيفِ الصَّوتِ والبَصَرِ
مِمّنْ يَعُدّكَ تَكفِي فَقْدَ وَالِدِهِ...كَالْفَرْخِ في العُشِّ لَم يَنْهَض وَلَم يَطِرِ
يَدْعُوكَ دَعْوَةَ مَلْهُوفٍ كَأَنَّ بِهِ...خَبْلاً مِن الجنِّ أوْ مَسّاً مِن البَشَرِ
خليفةَ اللَّهِ ماذا تأمُرُونَ بِنا...لَسْنا إلَيكُم ولا فِي دار مُنتَظرِ
مَا زِلتُ بعدَكَ فِي هَمٍّ يُؤَرِّقُنِي...قَدْ طالَ فِي الحَيِّ إصْعَادي وَمُنْحَدِرِي
لا يَنْفَع الحاضِرُ المَجهودُ بادِيَنَا...وَلا يَعودُ لَنَا بادٍ عَلَى حَضِرِ
إنّا لَنَرْجُو إذا ما الغيثُ أخلفَنَا...مِنَ الخَليفَةِ ما نَرجُو مِن الْمَطَرِ
جَاءَ الخِلافةَ إذْ كَانَتْ لَهُ قَدراً...كَما أَتَى رَبَّهُ مُوسى عَلى قَدَرِ
هَذِي الأرامِل قَد قَضّيْتَ حَاجتَها...فَمَن لِحَاجَةِ هَذَا الأرْمَلِ الذّكرِ؟
الخَيرُ ما دُمتَ حَيّاً لا يُفارِقنا...بورِكتَ يا عُمَر الخَيراتِ مِنْ عُمَرِ
فَقَالَ عُمَر: يا جَرير ! مَا أرى لَكَ ها هُنا حَقًا !
فَقَالَ: بَلى يا أمير المؤمنين، أَنَا ابن سَبيل وَمُنقَطِعٌ بي.
فأعطاهُ مِن صُلب ماله مائَة دِرهَم ..
وَقَد ذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: وَيحكَ يا جَرير ! لَقَدْ ولينا هَذَا الأمر وما نَملِكُ إلا ثَلاث مائَة دِرهَم، فمائة أخذَها عَبْد اللَّه، ومائة أخذتها أم عَبْد اللَّه، يا غُلام أعطِه المائة الباقِيَة..
فأخذَها، وَقَالَ:
والله لهي أحَبُّ ما اكتسبتهُ إلَيَّ.
ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ لَهُ الشعراء: مَا وراءك ؟
قَالَ: مَا يسوءكم، خَرَجتُ مِن عِنْدَ أمير المؤمنين وهو يُعطي الفُقراء، ويَمْنَع الشُعراء ، وإني عَنْهُ لراضٍ..
وأنشَأ يَقُولُ:
رَأَيْت رُقَى الشّيطان لا تَسْتَفِزّهُ
وَقَد كَانَ شَيطاني مِنَ الْجِنِّ رَاقِيا .
رحمة الله على أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز خامس الخلفاء الراشدين ..