كارثة الإعلام العربي بقلم : رامي الشاعر
تواجدت في الأيام القليلة الماضية في بعض الدول الخليجية وتابعت مشهدا إعلاميا صاخبا يعج بزخم من الأخبار والتحليلات والمداخلات التي جعلتني أشعر بالشفقة على المشاهد العربي من مدى التخبط في الأفكار والانطباعات التي يسببها ذلك المشهد.
ولا يتعلق ذلك فقط بالتحليلات ووجهات النظر وهي من حق الجميع بكل شفافية وحرية، ولكن، وبالتحديد، في طريقة تناول الأخبار، وزاوية عرض الأحداث، والتي يستند فيها الإعلام العربي بشكل أساسي إلى وسائل الإعلام الغربية، ويتبنى في غالبيته الرواية الغربية في النظر إلى معظم الأحداث الدولية، لا سيما في علاقته بروسيا وبإيران.
وبرغم الموقف الرسمي الذي يرفض أي مواجهة مع إيران، مع ظهور تسريبات أخيرة بعدم سماح المملكة العربية السعودية للولايات المتحدة باستخدام أراضيها للهجوم على إيران، حال اندلاع حرب إقليمية، وهو موقف نزيه وشريف ننتظره من المملكة. إلا أن وسائل الإعلام العربية، فيما يبدو، تعمل بتوجيهات وبلا استقلالية، وقد وافقني في هذا الرأي عدد من الشخصيات النافذة، التي رفضت الإدلاء بتصريحات رسمية، أو الإعلان عن هويتها نظرا لحساسية القضية.
أقول إن معاييراً قد فرضت على وسائل الإعلام العربية، بعضها محلية، وأخرى دولية، تحتم عليهم أن ينقلوا مزاعم "تكبد الجيش الروسي لخسائر"، بينما "تنتصر القوات الأوكرانية"، في كذب واضح ورخيص، تنفيه كل الحقائق الواردة من أرض المعركة. كذلك يتم تصوير المساعدات الأمريكية لأوكرانيا بقيمة 61 مليار دولار، وكأنها ستغير قواعد اللعبة، وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة.
واقع الأمر أنه من أصل 60.7 مليار دولار، ستستخدم الولايات المتحدة ما مجموعه حوالي 23 مليار دولار لتجديد مخزونها العسكري، وسيتم تخصيص 14 مليار أخرى لمبادرة المساعدة الأمنية لأوكرانيا، التي يشتري بموجبها البنتاغون أسلحة جديدة للجيش الأوكراني من مقاولي الدفاع الأمريكيين (أي أنها أيضا أموال ستنفق في الولايات المتحدة الأمريكية). وهناك 11 مليار دولار لتمويل العمليات العسكرية الأمريكية الحالية في المنطقة، وتعزيز قدرات الجيش الأوكراني وتعزيز التعاون الاستخباراتي بين كييف وواشنطن، وحوالي 8 مليارات دولار من المساعدات غير العسكرية مثل مساعدة الحكومة الأوكرانية على مواصلة العمليات الأساسية، بما في ذلك دفع الرواتب ومعاشات التقاعد.
إن تلك المساعدات وغيرها من المساعدات الأوروبية تتخذ شعارا لها بمجابهة "الخطر الروسي" الذي سوف "ينقض" على أوروبا، حال انتصرت روسيا في أوكرانيا، لذلك تخدع النخب السياسية في الولايات المتحدة وأوروبا مواطنيها بتلك الأوهام، من أجل دفع أوكرانيا لاستنزاف روسيا حتى آخر أوكراني، والحيلولة دون انتصار روسيا بأي ثمن.
فيما يتعلق بإيران، تصور وسائل الإعلام أن الهجوم الإيراني على إسرائيل بالمسيرات والصواريخ ليس سوى "تمثيلية" و"مسرحية" تم الاتفاق عليها مسبقا مع الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك حتى يسيطر انطباع لدى المتابع العربي أن الولايات المتحدة هي المهيمنة على كل الأحداث في الشرق الأوسط والعالم، وهي من "تحارب التطرف والتمدد الشيعي الإيراني"، كما "تحارب التمدد الروسي نحو أوروبا"!
في المحصلة نجد أمامنا فتنة إيرانية عربية، شيعية سنية، وفتنة فلسطينية فلسطينية، وحملة لتشويه روسيا ومجموعة "بريكس" بالجملة، ومحاولات مستميتة للوقوف أمام عجلة التاريخ، وعرقلة تحول العالم من الهيمنة القطبية إلى عالم التعددية القطبية، ومحاولة الإبقاء على النظام الاقتصادي والمالي كما هو، في الوقت الذي ينتظر الاقتصاد العالمي فيه أزمة اقتصادية طاحنة.
ومع الأسف الشديد، فإن كثيرين يتأثرون بهذا الإعلام ويميلون لتقبله، وعندما تناقشهم وتحاول طرح رؤية مختلفة من زاوية مختلفة، يصيبهم اندهاش كبير.
انطباعي بشكل عام هو أن الإعلام موجه بشكل أساسي لإبعاد الجماهير العربية عن التفكير في أي دور أو تأثير للعالم العربي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية أو تسوية العلاقات وتحسينها بين بلدان المنطقة، وأي دور في مسيرة التغيرات الدولية الهائلة التي تحدث في العالم اليوم. بل وتشعر وكأن الإعلام العربي يتفنن في خلق الحزازات والتناحرات العرقية والطائفية والسياسية ويسعى لنمو الأحقاد واليأس من الواقع العربي والاستسلام غير المشروط للغرب "الحر" و"الرائع" و"قاطرة التنمية".
إن التخلي عن أي موضوعية في مناقشة الملف الإيراني أو الأحداث بين روسيا وأوكرانيا و"الناتو" أو توتر العلاقات الروسية الأمريكية وغيرها من القضايا يبدو وكأن الإعلاميين والبرامج التلفزيونية المختلفة تبحث عن أي ذريعة لتعميق الخلافات وزراعة الأحقاد رغبة في رفع المشاهدات وتوسيع رقعة الانتشار، والحصول على مكاسب مالية (من الإعلانات وخلافه) أكبر، بصرف النظر عن المبادئ أو القيم أو أخلاقيات المهنة والإنسانيات بصفة عامة. ولا يسعى أي أحد في هذا المشهد للبحث عن العلاج، وعن العمل، والموائمات الممكنة، بل يتم تبادل الاتهامات بالعمالة والتخوين بلا ضمير.
يدسون السم في العسل، في وقت لا يصح فيه الحياد أمام المخاطر التي تتعرض لها منطقتنا، والمصير الذي يعانيه شعبنا الفلسطيني العربي، ويخشى المرء من طرح سؤال حول من المسؤول عن هذا كله، وهل يتبع هذا الشخص أو الجهة أجندة ما.
ولعل ما يحز في أعماق النفس حقيقة هو اتفاق عدد ليس بالقليل من السياسيين والإعلاميين الذين التقيتهم على المواجهة "ضد إيران" والتشكيك "ضد تركيا"، بل والتشكيك أيضاً في روسيا، وهي أمور تصب جميعاً في خانة واحدة هي التفرقة وتعميق الشروخ بين مختلف التوجهات التي يجب أن تسعى نحو توحيد الدور العربي لمواجهة المخطط الصهيوني الإسرائيلي لتصفية الشعب الفلسطيني وقضيته.. فهل من رشيد؟