عبدالحى عطوان يكتب: المجذوب عواد والشيخ عبدالحميد (جزء ثان )
وقف الشيخ عبدالحميد أمام عواد بعدما رآه نائمًا مكورًا جسده ومتواريًا عن الأنظار حتى لا تأخذه سخرية المارين بالشارع، دنا قليلًا حتى اقترب منه ومال عليه منحنيًا بوضع يده اليمنى حول صدره واليسرى حول أكتافه؛ ليستوقفه من نومته التي طالت حتى بلغت عددًا من السنين الكثيرة.
وحينما همَّ فى رفع جسده من على الأرض لم يلق الشيخ مقاومة تذكر، وكأن قوة الهيبة ترفعه أو أنه أراد من داخله الذهاب مع الشيخ للتخلص من كل تفاصيل حياته السابقة التي باتت تتصارع برأسه طيلة الوقت حتى حولته إلى المجذوب كما لقبوه.
وضعه الشيخ داخل سيارته عائدًا به إلى المنزل؛ حيث ظل طوال الطريق تتوارد خواطره، ماذا يقول للحاجة زينب زوجته التي لا تؤمن ببعض أفكاره نحو تلك النوعية من البشر؟، فكثيرًا ما طال الحديث بينهما وتحول إلى شد وجذب ما بين الحنو عليهم وما بين استحالة إصلاحهم وتقويمهم من وجهة نظرها، فظل طوال العودة يهيئ نفسه بسكونه وملامحه الداكنة ووجهه الملائكي للرد على كل أسئلتها المتوقعة مرتبًا في مخيلته معركة قادمة لا محالة.
على أعتاب المنزل لم يدر الشيخ عبدالحميد المفتاح كعادته بينما بكفة يده طرق الباب محدثًا ضجة بصوته الأجش فانتاب الجميع الدهشة من طريقة مناداته وكأنه في حالة عراك، فتوارت الحاجة وبناتها الثلاثة أميمة وخديجة ومديحة للداخل، بينما سارع الابن محمود نحو الباب متسائلًا عمن بالخارج؛ حيث جاءه صوت والده قائلًا: "أنا ومعي ضيف وقور".
وبمجرد أن وطأت أقدامهم داخل المنزل تسابق الجميع نحو الشيخ عبدالحميد وضيفه فهالهم المنظر الذى بدا غريبًا وغير مألوف وكأن جدران الحوائط تحولت إلى ظلال قاتمة اختفت من بينها أشعة الشمس بل تجمع حصاد كل الخيبات التي مرت عليهم، وبرغم محاولتها تمالك أعصابها وتظاهرها بالهدوء أمام بناتها الثلاثة ارتسمت ألف علامة استفهام على ملامحها.
وقبل أن تواجه زوجها بأسئلتها الغاضبة تفحصته بعينيها وكأنها تفتش في داخله عن ماضيه وأسباب هيئته، فانزوى قليلًا يلمم شتات ملابسه البالية ويلضم أوجاعه ليستر بها صدره العاري، أغمض جفون عينيه على استيحاء، فقد أحس أن الكل يحدق به.
ولأول مرة ينتابه شعور بالخزي من هيئته التي بدت كخريف بلا ملامح أو عنوان بتساقط كل الأوراق التي كانت تدفئه، حاول أن يهرب من عيونهم وأنفاسهم المكتومة بصدورهم متمنيًا الفرار ولكنه المستحيل مع الحصار، لحظات قليلة سادها الصمت المدقع بين الجميع وتوقف خلالها دخول النسيم من خلف شبابيك الأرابيسك التي تزين الجدران.
وقبل أن يبادر الشيخ عبدالحميد بتقديم الضيف الذى لا يعرف عنه شيئًا سوى المكان الذى انتشله منه، فوجئ الجميع بذلك المجذوب يتحدث بصوت متعلثم يتوارى خلف خجله من هيئته وثيابه الممزقة ولحيته الطويلة، قال وهو ينظر إلى طبقات الأرض: "أنا لست مجذوبًا أو هائمًا على وجهي أو وليًا من أولياء الله كما كنت أسمع بعض أحاديثهم من خلفي ولست فاقدًا للزمن والتاريخ"..
قاطعته الزوجه بالوقوف والاستدارة نحوه وقبل أن تتفوه بكلماتها استمهلها بوقار شديد مشيرًا بيديه وكأنه يتحننها أن تتركه مستمرًا في حديثه، نظر إليهم وتفحصهم ثم تابع كلماته القليلة: "كنت في يوم من الأيام مثلكم طالب علم لي أسرة ودار لكنني اليوم لظروف لا يعلمها إلا الله صرت صديقًا للشارع المظلم وكل الكائنات التي تتوارى عنكم، أتمنى الموت كل لحظة فقد جثمت الأيام على صدري حتى كتمت كل أنفاسي، لم أجد يومًا قلبًا حاضنًا لآلامي، أو ابتسامة تلون يومي".
أشار الابن محمود بيديه نحو هيئته، فقاطعه الشيخ ناهرًا إياه أن يجرح مشاعره فقد أحس أن بداخله إنسانًا فقط تحيط به الأغصان الجافة التي تحتاج أن تزدهر فقط مع الأيام.
أحاطت الثلاثة فتيات جسد والدتهن ووضعت كل منهن رأسها على كتفها بينما جلس الشيخ عبدالحميد وابنه متمددين على الأريكة الموضوعة وسط الدار وطلبا من عواد بعد أن تعرفا على اسمه أن يجلس بالقرب منهم، فاستجاب متمنيًا أن يتوارى عن الأنظار لكن الشيخ عبدالحميد باسطه بابتسامته المعهودة التي لطالما أضاءت وجهه، وكشفت عن أسنانه المتراصة البيضاء، وحركت ألياف لحيته الكثيفة.
قام منتفضًا بهدوءه من جلسته موزعًا الأدوار طالبًا من محمود بعض ملابسه المناسبة ليرتديها بعد الاستحمام، ومن زوجته إحضار الطعام، ومن بناته فرش المندرة الكائنة خارج الدار؛ ليبات فيها ذلك الغريب حتى الصباح، فقد عزم واتخذ القرار الذى أيقن أن لا بد منه، والذي سيكون مفاجأة للجميع..
تابعونا الأسبوع المقبل
والجزء الثالث ...