عبدالحى عطوان يكتب: حلم وجيدة بائعة الخضراوات
لم تكن تتخيل وجيدة تلك المرأة التى زينت ملامحها بتجاعيد الصبر، أن تأتى تلك اللحظة وهي حية؛ فقد طوت بين أحشائها حلمًا كبيرًا تصارع الحياة يوميًا من أجله وبينما تنتابها تلك الافكار تناثرت السحب الملبدة بالغيوم فى ليلة شتوية فهرول الجميع بالقرية إلى سحب المواشي من الحقول والانزواء من الشوارع، فقد لاح فى الأفق مقدمة عن سقوط أمطار، وبينما علت صيحات الأطفال فرحًا، اختفت أم صلاح والتى قارب عمرها الخمسين، داخل منزلها ومعها كل الخضراوات التي تبيعها لأهل القرية ممسكة بكيس ربطته بحمالة في عنقها تضع فيه كل قرش تبيع به.. أخذت تحدق في جدرانه المبنية بالطوب اللّبن وسقفه الذى تغطيهمجموعة من أعواد النخيل، أسفلها مجموعة من العروق الخشبية والذى تبرع بهم الشيخ محمود مقيم شعائر الصلاة بالمسجد المجاور لهم، تأملت ألوانه الباهتة والكهرباء الخافتة التي تأتى من المصباح الزجاجي الموضوع فوق فرن الخبيز، والقليل من الأواني الموجودة بأحد أركانه والموقد البلدي الذي تستخدمه في طهي القليل من الطعام لأولادها صلاح وحسين تنهدت قليلًا فهي عاشت ذكريات كثيرة مؤلمة حاولت نسيانها دون جدوى، فقد كانت دائما تردد تكفيني الضحكات التى تملأ ذلك البيت من صلاح وأخيه، وقريبا سيتغير كل شيء.
دائبت طوال السنوات الماضية منذ رحيل زوجها أن تذهب للسوق كل صباح لتبتاع الخضراوات لتجارتها حتى تنفق على تعليم أولادها، فقد خلقت لنفسها حلمًا كبيرًا وأصرت على تحقيقه، أن يأتي يومًا وينادي عليها جيرانها وأهل القرية أم الدكتور صلاح وإذا هل المساء كانت تملأ الضحكات فمها كلما أخذت الماء والدقيق لتكورهم فى حجم البيضة وتصنع منهم فطيرة لصلاح التى يحبها، وتناديه بالحلم الذى يتردد داخلها فيهب واقفًا من فوق كتبه التي يضعها أعلى قفص من الجريد صنعه ليكون منضدته التي يستذكر دروسه عليها، فيداعبها بكلماته الرقيقة قائلًا: هاتي لنا قليلًا من اللحم حتى أصبح لك طبيبًا ثم يستحثها على الدعاء ليعود وينكفئ على كتبه.
هكذا شب صلاح على دعوات أمه كالعابد البتول لا يعبس في يومه ولا يضيّع الوقت هباءً فقد سقطت من ذاكرته كل ألوان الترفيه، لا يردد أحيانًا سوى بعض الأدعية المعروفة فقد كانت هذه تسليته الوحيدة يظل طوال الليل ساهر على كتبه حتى تضيء السماء وتصمت الضفادع عن صوتها الذى يلازمه منذ حلول الظلام، ويحل محلها صوت جرار عم سعيد ومواشي عم كامل وهم متجهون للحقول، وعند قراءة الشيخ محمود بميكرفون المسجد لحظتها يهب للصلاة ثم يستقبل دعوات أمه قبل خروجها للتسوق بعدما تصنع له فطيرته التي يحبها، ثم يفر مغادرًا إلى مدرسته وسط أقرانه، مرددًا بينه وبين نفسه طول الطريق بعض آيات القرآن الكريم أو مقتطفات مما استذكره طيلة الليل.
ظلت السنوات تطوي العام بعد العام والأم اتسعت تجارتها قليلًا فضمت أصنافًا أخرى بكميات أكبر بفضل مساعدة ابنها حسين الذى قرر أن ينسحب من التعليم ليساعدها، بينما صلاح يحقق من الحلم أرقامًا فقد انتهت الإعدادية بتفوقه على كل أبناء قريته حتى صار حديث دوار العمدة ياسين والمترددين عليه من الأهالي، خاصة عندما يتطرق الحوار إلى تجارة والدته وطبيعة دارهم ومعيشتهم ومعاناته بينما هو لا يعير الأمر اهتمامًا ولا ما يقال وزنًا، فقد صمم أن يحقق حلمه متخذًا من الثانوية العامة سلمًا للكلية التي ظلت والدته ترددها أمامه، وبالفعل اجتاز الثلاث سنوات بتفوق وأصبحت خطواته بين جدران الجامعة واقعا ليدرس من العلوم ما يحقق اللقب الذي حلمت به، وظلت طيلة عمرها عائشة تبيع وتشتري من أجله، لتمضي الأيام بكل شقائها وها هي لحظة التخرج تستقبلها القرية بالحديث عن تفوقه والأم بالزغاريد تدوي من فمها، بينما هو واقف أمامها ليقبل رأسها أمام كل المارة والمبتاعين من تجارتها، قائلًا لها: ها قد صرتي أم الدكتور صلاح مداعبًا أين شطيرة اللحم التي وعدتيني إياها؟؟
وحينما هل المساء وانزوى أهل القرية داخل منازلهم لحظتها لمحت فى عينيها خطبًا ما فبادرته بالسؤال.. قل ما تخفيه عني ولا تتردد؟ فأنت ابن بطني وأنا أعرفك جيدًا وراء نظراتك شيئا ما، لحظتها استدار صلاح بوجهه بعيدًا دون مواجهة والدته حاول أن يحادثها فلم يستطع نطق الكلمات فخرج مسرعًا وهي تنادي عليه دون استماع..
تابعونا في الجزء الثاني.. الدكتور صلاح والاختيار