عبدالحي عطوان يكتب: صفية ورجل لا تعرفة !!
لم تتخيل صفية أنها ستعود يومًا بعد قصة طويلة لا تصلح إلا للأفلام الدرامية، ستعود بعدما فقدت الكثير والكثير حتى تشوهت لديها معالم الإنسانية، فقد قادتها أقدامها إلى تلك الدار مرغمة بعد مغادرتها أكثر من تسعة سنوات مع رجل اكتشفت في النهاية أنها لا تعرف شيئًا عنه، وأكثر ما كان يزعجها خلال أيامها الأخيرة معه ذلك المنظر الذي وصلت إليه وكيف تغيرت ملامحها وانطفأ بريق عينيها واضمحل عطرها الذي كان يملأ المكان واسمرار بشرتها، وضرب المياه البيضاء لعينيها العسليتين وكأنها خارجة من مرض عضال أصاب جسدها الذي كان رمزًا للأنوثة الفاتنة.
ارتمت فى أحضان أمها التى أخذت تتفحصها فقد أحست بشيء يسري بين عروقها البارزة المنتفضة، فهرولت هي مختبئة في غرفتها وما لبثت الأم بقلقها أن دخلت وراءها لتعرف ما بها وأي مصاب أصابها، حاولت أن تقترب منها وتضع يديها برفق فوق كتفيها لكنها زاغت بعينيها بعيدًا عن عيني الأم وبرغم كل محاولات استدراجها للتحدث لكنها باتت كالخرساء فالكلمات لا تخرج من فمها مبحوحة كأنها فقدت أحبالها الصوتية. تركتها الأم لتبدل ملابسها وتهدأ من روعها، فقد تتحدث إليها فيما بعد.
ورغم نداءاتهم المتكررة عليها لإخراجها من غرفتها ظلت لساعات ممتدة مغلقة الباب على نفسها، تراجع شريطًا طويلًا من الذكريات مر بها وفي لحظة انتفضت واقفة وكأنها أرادت ألا يقتلها اليأس وتقضي الباقي من عمرها خلف قضبان تصنعها لنفسها، فخطت خارج غرفتها وحينما وضعت أقدامها بالصالة التي فارقتها من سنوات أخذت تتأملها على استحياء وكأنها تداري كسرتها أو علامات الحزن التي ارتسمت على ملامحها، ارتمت بجسدها على الأريكة والتي تتراوح عمرها من عمر ميلادها، فقد فتحت عينيها لتجدها كما هي بنفس الكسوة الباهتة والوسادتان اللتان عتقا من الزمن، فقد كانت محطة لأكياس والدها كلما هم قادما متبضعا ببعض الأشياء أو حاملا التسويقة.
نظرت إلى الوجوه التي تتفحصها دون حديث فقد ساد الصمت طويلا، لم يكن يعكر الجو سوى سخونة الأنفاس الصادرة من حناجرهم والتي كانت تشعرها بالضيق وكأنها تقف متهمة أمام قاضيها، لا بد أن تجيب على كل علامات الاستفهام التي ارتسمت فوق جبينهم وأن تحكي كل ما حدث معها طوال السنوات الماضية، لم تدرك كم من الوقت مضى قبل أن ترفع رأسها تجاههم، مررت أصابعها في خصلاتها اللامعة عدة مرات وكأنها تعيد ترتيبها من جديد حتى لا يظنوا أنها تعاني مرضا ما فملامحها تفضح معاناتها،
لفت ذراعيها حول وسطها واتكأت برأسها على أحد الحوائط وأغلقت عينيها وسرحت بأفكارها للوراء تفتش عن نقطة البداية حينما عانقته في اللحظة الأولى من ليلة زفافهم وكيف كانت قبلاته حارة.. أحست معها بنسيم الدنيا وقدوم ربيعها ولكن سرعان ما تبخر كل ذلك مع الوقت فتسلط والدته وقسوتها وطغيانها وضعفه وخنوعه أمامها بدأ يقتل كل شيء، فقد اكتشفت أنها تزوجت طفلا صغيرا لم يفطم من ثدي أمه بعد، وما زاد من قتامة الحياة ومرارتها عدم الإنجاب، فقد صار اسمها مقترنا بلقب لقبتها لها الأيام دون ذنب ارتكبته «العاقر»، بل أشعرتها كلما نادت عليها أمه بالأرض الجرداء التي لا تنبت زرعا، مر الشريط سريعا بكل محطات الظلم والإهانة ، وتبدل كل شئ إلى نقيضه ،حتى كانت لحظة الانفصال حينما ألقى عليها اليمين فقط ليرضيها فاكتشفت أنها تزوجت شخصا لا تعرفه، ربتت الأم على كتفيها لتفيقها قائلة لها، إنها إرادة الله.