18:10 | 23 يوليو 2019

عندما يكون الفعل اغتصابًا بكل المقاييس… ويصر القانون على تسميته هتك عرض

11:38pm 02/12/25
عمر ماهر

 

 

لم يعد الجدل الدائر حول جريمة هتك العرض مجرد نقاش قانونى محدود بين المتخصصين، بل تحوّل إلى قضية عامة تمتد آثارها إلى المجتمع بأكمله، بعدما أصبح واضحًا أن التوصيف التشريعى الحالى لا يعكس بدقة حجم الأفعال التى تُرتكب ولا ما تتركه من آثار جسدية ونفسية على الضحايا، وهو ما دفع الكثيرين إلى طرح سؤال جوهرى: هل ما زال تعريف هتك العرض فى صورته الحالية قادرًا على حماية الضحايا وردع الجناة أم أننا أمام لحظة حقيقية تستدعى إعادة صياغة كاملة لهذا المفهوم؟

 

فالواقع يكشف بوضوح أن جرائم الاعتداء الجنسى لم تعد محصورة فى صورة واحدة أو وسيلة واحدة، بل تطورت فى أشكالها وأدواتها وحدود العنف المستخدم فيها، وأصبحت تأخذ صورًا تفوق فى بشاعتها كل ما كان متعارفًا عليه سابقًا، ورغم ذلك ظل التشريع قائمًا على مفهوم ضيق جدًا للاغتصاب بينما وضع كل صور الاعتداء الأخرى، مهما بلغت قسوتها، تحت مسمى واحد هو "هتك العرض". وهنا تظهر الإشكالية، لأن هذا التوصيف لا يعبر حقيقى عن طبيعة الجريمة، ولا عن حجم الإيذاء الذى يتعرض له المجنى عليه، ولا عن المعايير النفسية والإنسانية التى تُعرّف الاعتداء الجنسى بأنه انتهاك كامل للجسد وسلب للإرادة قبل أن يكون مجرد إيلاج فى موضع معين.

 

والنقطة الأخطر التى فجرت هذا النقاش أن التشريع المصرى يعتبر أن الذكر لا يُغتصَب قانونًا، مهما كانت الصورة التى وقع بها الاعتداء عليه، ومهما كان العنف المستخدم، لأن تعريف الاغتصاب لا يزال مقصورًا على صورة واحدة بعينها ترتبط بالأنثى دون غيرها، بينما أى إيلاج شرجى — سواء وقع على ذكر أو أنثى — لا يُصنَّف كاغتصاب بل كجريمة هتك عرض. وهذا التعريف التقليدى جعل القانون غير قادر على أن يواكب التطور فى فهم خطورة الاعتداء الجنسى، كما خلق فجوة بين إحساس الضحايا بحقيقة ما تعرضوا له وبين ما ينتهى إليه الحكم القضائى.

 

ففى كثير من الحالات نجد أن الضحية — خصوصًا إذا كان طفلًا ذكرًا — يعانى صدمة مركبة تبدأ من لحظة الاعتداء وتستمر لسنوات طويلة، ويتولد لديه شعور قاسٍ بأنه تعرّض لفعلة تماثل الاغتصاب معنى وواقعًا، بينما يجد القانون يخبره أن ما حدث ليس اغتصابًا وإنما "هتك عرض"، وهنا تتشكل الفجوة النفسية التى يشعر فيها المجنى عليه أن القانون لم يعترف بمعاناته كاملة. والأخطر أن العقوبة التى توقع على الجانى فى هذه الحالات قد لا تكون متناسبة مع حجم الفعل، مما يعطى انطباعًا خطيرًا بأن التشريع يتساهل مع أشد صور العنف الجنسى رغم خطورتها.

 

ويؤكد عدد من الخبراء أن هذا الوضع يعود إلى فلسفة قديمة كان ينظر فيها المشرّع إلى الجسد الأنثوى باعتباره مجال الجريمة الرئيسية، بينما لم يكن الاعتداء على الذكور داخل المنظور التشريعى بنفس الدرجة من الوعى أو الاهتمام، وهو ما أدى إلى بقاء نصوص تحمل أثرًا واضحًا لعادات اجتماعية قديمة لم تعد مناسبة لعصرنا الحالى. فالقانون الحالى لا يضع معيار "الإكراه" أو "انتهاك الجسد" أساسًا للتجريم، بل يربط جريمة الاغتصاب بنوع محدد من الإيلاج فقط، وهو ما يعنى أن القانون يقيس الجريمة على أساس شكل الفعل وليس مضمونه، رغم أن المضمون — فى كثير من الحالات — يكون أشد فتكًا من الشكل ذاته.

 

ولو نظرنا إلى الآثار النفسية للضحايا، لوجدنا أن الاعتداء الجنسى بالإكراه، سواء وقع على طفل ذكر أو أنثى، غالبًا ما يحمل نفس النتائج من تفكك داخلى، وصراع نفسى، وصدمة ممتدة، واضطرابات قد تستمر مدى الحياة، وهو ما يؤكد أن التفريق التشريعى الحالي لا يستند إلى أسس علمية أو حقوقية بقدر ما يستند إلى تقسيمات تاريخية لم تعد قادرة على حماية الإنسان المعاصر.

 

ومع زيادة الوعى المجتمعى وانتشار حالات الاعتداء على الأطفال—ذكورًا وإناثًا—بدأت الأصوات الحقوقية والقانونية تتصاعد مطالبة بأن يتم إعادة تعريف جرائم الاعتداء الجنسى وفق معيار واحد وواضح، وهو أن الجريمة تقوم عندما يتم انتهاك الجسد بالإكراه، بغض النظر عن شكل الاعتداء أو موضعه أو جنس الضحية أو أداة الجانى، بحيث يُعاد الاعتبار للضحايا وتصبح العقوبة معبرة عن خطورة الجريمة فى حقيقتها، لا كما يصنفها النص القديم.

ويرى كثير من المتخصصين أن إعادة تنظيم هذا الملف ليست مسألة لهجة أو تسمية، وإنما مسألة عدالة وردع وتوازن، لأن استمرار التوصيف القديم يعنى بقاء القانون غير قادر على التعامل مع الجرائم الحديثة بالصورة الواجبة، كما يعنى أن الضحايا — خصوصًا الأطفال — سيظلّون غير محميين كما يجب، وأن بعض الجناة قد يظلون يحصلون على عقوبات أقل بكثير مما تستحقه أفعالهم.

 

من هنا، تبدو الحاجة إلى مراجعة شاملة أكثر من ضرورية، مراجعة تُعيد الأمور إلى نصابها، وتضع مفهوم الاعتداء الجنسى على أساس جوهرى هو انتهاك الحرمة الجسدية، مع تحديد درجات للجريمة وفق مستوى الإكراه والضرر، دون أن تظل صورة واحدة فقط هى التى تستحق لقب

 

 "اغتصاب"، ودون أن تبقى بقية الصور — مهما بلغت وحشيتها — تحت مظلة واحدة قد تُضعف شعور المجتمع بالعدالة.

 

وبهذا يصبح السؤال المطروح اليوم ليس مجرد: هل يحتاج تجريم هتك العرض إلى تعديل؟ بل: هل يمكن أن يستمر تعريف الاعتداء الجنسى بصورته الحالية بينما تتغير المجتمعات وتزداد التحديات وتتعقد صور الجريمة؟ وهل من المقبول أن نظل نُعرّف الجريمة على أساس شكل الإيلاج وليس على أساس الإكراه والاعتداء؟ الإجابة باتت واضحة فى أذهان الجميع: إن مستقبل حماية الضحايا يتطلب تعديلًا جذريًا يعيد تعريف الجريمة بما يتناسب مع الواقع، ويعطى كل ضحية اعترافًا قانونيًا يليق بما عانت منه، ويعيد للمجتمع ثقته بأن القانون أقوى من الجريمة، وليس أقل منها فهمًا أو وعيًا أو قدرة على الردع.

تابعنا على فيسبوك

. .
paykasa bozum